26‏/2‏/2013

سقف المطالب الوطنية وعمق هوة السقوط السلطوية في العراق


عبد الكاظم العبودي
افرزت العملية السياسية التي خططها ونفذها  الغزو والاحتلال الامريكي للعراق مسارين متزامنين متباعدين لا لقاء بينهما.  مسار الشعب العراقي وقواه الاجتماعية الفاعلة التواقة للتحرر الوطني، ومسار الحكم والسلطة المختطفة لديه بين يدي الغرباء المحتلين وبعدها تسليم السلطة الى وكلائهم  لحكم العراق.

فالمجموعة الحاكمة التي نصبها الاحتلال سعت منذ الوهلة الأولى الى بناء سلطتها القمعية وتشكيل قوات حماياتها وما سمي بعدها بقواتها المسلحة والعمل بكل الوسائل على الاستحواذ على الدولة وفق قانون " الفرهود" المعبرعنه شعبيا بـاسم " الحواسم" وقد تم كل ذلك في ظروف مرة وقاسية واستثنائية،  كان شعبنا يلملم خلالها جراحه ويطوي آلام فترة الحصار الأمريكي الظالم ومعاناة تبعات الحروب التي شنت عليه والتي انتهت بالعملية الإحتلالية العسكرية الامريكية الغاشمة وما فُرض على العراق تكتل سلطوي هجين وغريب حاكم بإرادات وإملاءات أجنبية.
ومنذ اللحظات الأولى، بعد ساعات الاحتلال لبغداد بدأت عمليات الافتراق والتباعد والتنافر في ظروف لا يمكن تشبيهها الا انها حالة بلازمية فيزيائية الخصائص، بدت للوهلة الأولى أنها:  لا لون لها ولا طعم ولا هوية،  وهي لا تمتلك تشكيل معين ولا حتى تركيب محدد، بل انها حالة الفوضى الشاملة، لكن مثل تلك الحالة محكوم عليها أن لا تدوم، وكما تعرفها نواميس الفيزياء والطبيعة والمجتمعات العريقة المتحضرة؛ فالإستقطابات المتسارعة الجديدة ستفرز التشكيلات والبنى والتجمعات المعبرة عن عراق جديد بدأت في التخمر والتشكل والظهور بفاعلية وحراك له أنزيماته وآلياته الكامنة ستعبر عنها قدرة مختزنة خلاقة، وتواقة للتحرر ظلت في وعي شعبنا واستمدها من ذاكرته الوطنية وإستخلصها من جذور حضارته وموروثه الثوري والاجتماعي.
  الإستقطابات التي نشهدها اليوم في العراق طبيعية ومحتملة وما كان له كحالة تطفل وعابر أفرزتها ظروف الصراع الاجتماعي ، وما تمكن منها على الاستحواذ على السلطة وبرز على السطح بفعل عوامل دعم الإحتلال وإدارته وسعيه منذ البداية على تشكيل جبهة من القوى الاجتماعية الشاذة عن المسارات الوطنية والقومية، فمنها القوى الهامشية والطارئة ومنها المستوردة والمرافقة لدبابات الاحتلال، وكلها فئات اندفعت في خياراتها واجتهاداتها نحو الهوة السحيقة، وشكلت لها قاطرة من متحالفي كيانات مجلس الحكم ومنها الى البرلمان ومجالس حكم المحافظات فانحدرت معها فئات وقوى اجتماعية طفيلية وانتهازية تحاول تسريع وتكريس مبدأ الهدم السريع للدولة الوطنية العراقية وتقويض مؤسساتها وفرض مبدأ الإحلال القسري بديلها من منظومات حكم متشابكة المصالح والكانتونات والكيانات السياسية المشبوهة للعمل على تمزيق العراق ولحمته الوطنية، وخاصة اغلبيته السكانية الساحقة من عرب العراق.
 تقابلها جبهة ثانية من القوى الوطنية، لم يكن لديها في البدء في أيام الاحتلال الاولى سوى خيار المقاومة للإحتلال، وهذه القوى تمسكت بصرامة بهوية العراق القومية والوطنية واعتزت بموروث الدولة الوطنية وانجازاتها، في الوقت نفسه سعت إلى شد الروابط والأسس التي تضمن الحد الادنى والمطلوب  لبناء منظومة إجتماعية وطنية عراقية مقاومة للاحتلال ورافضة لما جرى ويجري من حولها من مشاريع التقسيم والتهديم، وفي خضم نضالها ظلت مدركة أن الانجرار إلى  تقسيم ما تقسم، وتجزئة ما تجزأ، سيقود العراق ومستقبله إلى الهاوية السحيقة التي جاء من اجلها المحتلون وحلفائهم بمخطط تنفيذي أسهمت في تنفيذه الولايات المتحدة وإسرائيل خاصة، والتحقت به إيران الصفوية في كثير من مفاصله التنفيذية .
 وخلال لجة الليالي المظلمة والحالكة التي عاشها شعبنا في السنوات التالية لاحتلال بغداد   سعت كل الأطراف الى تحقيق أهدافها المعلنة منها والمستترة. فالشعب العراقي، بحسه الثوري والفطري، أعلن إن مصيره ومستقبله وخلاصه من الاستغلال والعبودية يكمن في خيار واستمرار المقاومة بكل الوسائل المتاحة لتحقيق التحرير أولا، وجعل الأولوية في العمل الوطني لوحدة المخلصين للعراق ومستقبله وسعت قوى المقاومة إلى تجنيد الجهود كلها لإزاحة وطرد المحتلين الأمريكيين من العراق، وبعدها مرحلة التفرغ لكنس ذيول الاحتلال وأدواته التنفيذية ومحاسبة أدلاء حصان طروادة البغدادي في عملية الغزو 2003 وكل من سعى إلى تكريس الاحتلال، وتلك هي جبهة الشعب الوطنية التي نشهد نموها اليوم بشكل واضح ومتمايز.
أما الجبهة الأُخرى المتكتلة وفق تحالفات مفضوحة من بقايا  خفافيش الاحتلال فقد ذهبت نحو الجحور والمغارات والسراديب والكواليس والى الخارج الطامع ودول الجوار المتطلع إلى الهيمنة على العراق، فتعاونت وتجندت على بناء سلطاتها المطلوبة للبقاء في الحكم طويلا وارتضت بالقبول والتماهي مع مخططات المحتلين وأعلنت عن نية التمسك بالبقاء في السلطة حتى في ظل وجود سلطة الاحتلال أو القبول تحت مظلته وحمايته القريبة والبعيدة بصيغ الاتفاقيات الأمنية المشبوهة الأغراض والأهداف. وبذلك تخلت تلك الجبهة عن هموم وطموحات شعبنا وهو يواجه واحداً من أجرم وأشرس الإحتلالات القاسية في التاريخ الإنساني. وبهذا المسار  تكون تلك القوى قد  اختارت فعلا الذهاب بحتفها المحتوم والى الهاوية والسقوط بها حاضرا ومستقبلا.
في خضم تلك الأحداث والمراحل المرة التي شهدها وعاشها العراق في العشرية الدموية السوداء المنصرمة برز وظهر على السطح مثل هذا التوجهان المتنافران والمتباعدان والمتوازيان من غير تداخل وقد فعلت الإرادات المتصارعة الى مسارين :
 الاول:  يسمو على الجراح ويدعو الى تحقيق المطالب الاجتماعية واستعادة الدولة العراقية من مخالب الخاطفين الطارئين وتخليص العراق من الطامعين.
 الثاني: توجه ويندفع بسرعة السقوط الحر إلى تلك الهاوية السحيقة، وما بين هذا وهذا طرح البعض وهم المصالحة الوطنية كشعار وممارسة متعثرة لانها تطرح من دون مصارحة وطنية حقيقية ومحاسبة الذات على الفعل المكروه، ومن دون ان تترك للشعب العراقي الحكم والفرصة لاتخاذ القرار الوطني المستقل. لقد تمت تجاهل ارادة العراقيين ولم تمنحهم الفرصة  للخيار لاي من البرامج المطروحة للمصالحة الوطنية. وعندما يجري الحديث عن الحوار الوطني تناست الجماعات الحاكمة أهو حوار المستقبل لاستعادة العراق محررا كاملا غير منقوص أم إبقاء ارتهان العراق بيد الخاطفين وتحالفاتهم الإقليمية وإبقائه في حفرة الارتهان تحكمه عملية سياسية مشبوهة ومشوهة ووثيقة الارتباط بالمصالح الاستعمارية تركها بريمر موروثة للحاكمين الجدد سُميت جزافا وتجاوزا على روح القوانين الإنسانية وعدالتها " دستوراً" أو " عدالة انتقالية" يتبجح بها البعض من زناة القانون ومزوري الإرادة الشعبية، وهي لا تمت للقانون والإنسانية والقيم العراقية الأصيلة بأية صلة.
 خطان وجبهتان واضحتا المسار والإستقطابات الاجتماعية، وبينهما برزخ فاصل يتواصل في التباعد، فهما خطان لا يلتقيان بالمساومة التاريخية على حقوق العراق وطنا وشعبا واحدا، ولا يتم ذلك الا بإسقاط الجدر الإسمنتية والسياسية التي بناها المحتل وحلفائه.
 توهمت السلطة الحاكمة أنها استكملت بناء دولتها الطائفية، وإنها رسخت أقدامها، وبنت وحدات جيشها وقواتها المسلحة والأمنية من تجميع شراذم المليشيات والعصابات الإجرامية لأحزابها وكياناتها، وهي اليوم تركب رأسها خبثا ومكرا بتجاهل حقوق العراقيين وارادتهم،  وهي تدعي انها تحتكم للصندوق الانتخابي، وتمارس ديمقراطية شوهاء، ولديها مؤسسات للحكم والاحتكام للقانون، في مجلس قضاء ومحكمة دستورية وبرلمان... الخ.. وغيرها من تلك الرطانات والمصطلحات الفارغة من أي مضمون وهي  تعرف ان كل تلك الادعاءات مجرد خواء رث يردد صداه البعض كالطبل الأجوف .
على الجبهة الثانية، وبعد ان أنجز المقاومون جزءا من مهمات التحرير والنجاح بإرغام قوات الاحتلال الأمريكي وحلفه الغربي على الرحيل الجزئي من أراضي العراق كان لابد من الاهتمام بمطالب الجبهة الاجتماعية الملتهبة للشعب التي أشعلتها الأزمات وأنهكتها تداعيات السنوات العشر من الفوضى الخلاقة، فتجددت الإرادات الوطنية وتوجهت المقاومة والممانعة إلى الشارع مرة أخرى، وعملت على تعبئته في المطالبة والتظاهر والاعتصام من أجل إسترجاع الحقوق الأساسية ولضمان الحياة، ومن ثم المنازلة التاريخية باسترجاع الحقوق الأهم وهي استعادة الدولة لأبناء العراق، وإلغاء القوانين الجائرة، وتحرير الأسرى وإطلاق سراح المعتقلين ومحاسبة المجرمين واللصوص والقتلة.
 وعلى هاتين الجبهتين تعاد بسرعة قضية الإستقطابات والتحالفات والتشاركات بين قوى اجتماعية وطنية تسمو بالمطالب وترفع من سقفها يوما بعد يوم، تتصلب أمامها سلطة النهابين ولصوص ومرتزقة الاحتلال التي تسعى الى خيار السقوط الحر وتحاول ان ترتهن حياة الناس وحريتهم بالقمع  والتهديد باشعال الحرب الطائفية وبذلك تريد الانتحار في الهاوية السحيقة المظلمة  بمحاولة إشعال الحرب الأهلية في العراق.
من هنا يكون على الانتفاضة الوطنية وقواها الثائرة التمسك بسقف المطالب ورفعها يوميا وهي تدرك أن الزمن بات لصالحها، طالما إن القائمين على السلطة في العراق كشفتهم الأيام من أنهم لم يتعلموا بعد شيئا من دروس تاريخ العراق البعيد والقريب، ولم يثبتوا في تجربة الامتحان الوطني ولم يفرزوا  رجال دولة وقادة مجتمع لديهم برنامج اجتماعي وسياسي واقتصادي تنموي، لذلك عم الخراب الشامل في كل جزئيات حياة العراقيين وبات العراق جحيما لا يطاق. فأمام ارتفاع سقف المطالب للجماهير هناك تعنت سلطوي وحالة ارتباك واضحة وهناك ملامح لحالة غوص للجناة في ملاذات المستنقع السلطوي وامتيازاته وحتى التعلق بآثام الفساد الذي أخذهم الى حالة إعلانهم  العزة بالإثم والتنكر لما قطعوه على انفسهم، واول العهود النكوث بالوعد بنسيان مبدأ المصالحة الوطنية التي تاجرت به الكثير من تلك القوى من داخل السلطة وخارجها حتى أضحت المصالحة الوطنية المنشودة لقادتهم هي عملية فرض الأمر الواقع على الشعب بالقمع ومحاولة اجتثاث الشعب كله بدلا من "اجتثاث البعث"، الشماعة التي علق عليها الطائفيون الجدد وقبلهم المحتلون كل مطالبهم السابقة.
ما المطلوب اليوم؟ وقد أفرزت الحالة العراقية في ربيعها الحقيقي الوطني مثل هذا الاستقطاب الواسع هذه المرة. لسنا هنا في حالة تقديم الدروس والوصايا والمواعظ، فشعبنا له من الذكاء والفطنة والخبرة التاريخية ما يسلحه بالوعي ومواجهة كل حالة؛  فالشارع وقواه الفاعلة اليوم  يثبت أقدام المنتفضين ويرفع من أصواتهم ويُعلي من سقف المطالب التي ستذهب في نهاية المطاف إلى هدم كل بيت الأصنام في المنطقة الخضراء،  وقد اقتنع الجميع في صحوة وطنية حقيقية أن كل ما بني من أباطيل فهو وهم وهش وآيل للسقوط،  وإن الاحتكام لكل الشعب وطوائفه وقومياته وأديانه واحزابه الوطنية والقومية من دون استثناء وتجاوز لطرف بوسائل شفافة وواضحة ومبرمجة هو الخيار الوحيد للخروج من المأزق، فالديمقراطية الحقيقية لاختيار بناة دولة العراق، ولا أقول سلطة البعض هو أمل شعبنا المنتفض.
 إن الجماهير المحتشدة في شارع الانتفاضة الوطني الموحد تقف على ارض صلبة  وهي قادرة على التمسك بتلك الارض وتحريرها شبرا شبرا، وارض العراق قادرة ان تسندها وتشد من عزمها حتى الانتصار،  أما السلطة فقد اختارت مسار السقوط المزلزل الأرذل، لأنها أوهمت نفسها حكم العراق من وسط عمق المستنقع الطائفي والسلطوي المتهاوي.
تجذر الانتفاضة مطالبها كل يوم من خلال حوار واع وتفاعلية متواصلة مع الساحات والقوى الاجتماعية المشاركة فيها، وهي تُبلور كل المطالب التي باتت حالة استرجاع  للحقوق المستلبة، لا يمكن التنازل عنها او المساومة عليها، وقوى الانتفاضة الوطنية تتحلى بالشجاعة وهي تمارس النقد والنقد الذاتي لتجربتها بحرية وهي قادرة أن تصحح كل يوم الممارسات التي لا يقبلها شعبنا او التخلص من شبهة الطائفية التي لا تريد الاتهام  بها؛  لأنها تؤسس لمبدأ المصارحة الوطنية وتنشد بناء العراق، وهي تعلن ذلك وهي خارج السلطة ولكنها تترجم خطوات المصالحة الوطنية وتجسها في الممارسات اليومية بساحات العز والكرامة وسوف تسير نحو تحقيق الاهداف الوطنية  بأقل كلفة من الدماء والآلام والمئآسي.
وان غدا لناظره قريب. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق