14‏/7‏/2013

ثورة 14 تموز واسطة العقد الوطني الذي انفرط قبل اوانه

ا.د. عبد الكاظم العبودي
ما كان لنا ان نسير تلك المسيرة العرجاء المرة المليئة بالعثرات الدموية الكبرى لو ان ثورة 14 تموز المجيدة سارت وفق خطها الوطني والقومي المطلوب في بيانها الاول وما اتفق عليه الضباط الاحرار وخلفهم جبهة الاتحاد الوطني.
 خمس وخمسون عاما من الذكريات، ماثلة امام الاذهان، وقد تعاقبت عليها الاجيال ما بين حالم بها وشاتم لها ومتنكر لها ودارس لتجربتها. مرت تلك الثورة، كأنها الحلم العابر الذي لم يتم تفسير رؤيته بعد وفق قناعة وطنية اشمل ، بعيداً عن حدود الاحتراب الذي نشأ حولها، وهي لم تتم عامها الاول حينها.


ثورة 14 تموز أول لؤلؤة ضاعت من ايادي العراقيين، فقدناها بين أكوام الاخطاء والتآمر عليها من كل صوب، والتناحر على السلطة،  فكانت كالسفينة التائهة ضاعت وسط لجة المجهول عندما احتدم الصراع بين ربابنتها فتم اختطافها لمن هب ودب.
      تموز نتذكره، ذلك الصباح المشدود بسواعد عزائم الرجال الابطال، ودعاء الامهات وتطلعات افئدة الشهداء، لكي تنهض بغداد باكرة من كوابيسها فتصنع الحلم الذي يفتح كوة أمام الشعوب من نور الحرية، والتطلع الى المستقبل المنشود.
     لقد قدم العراقيون لتلك الثورة، وعبر ثلاثة عقود،  المليئة بالانتفاضات والتظاهرات والاحتجاجات ، عشرات الشهداء وألوف المعتقلين من ابناء العراق الاحرار، متطلعين دوما الى انتظار يوم الحرية.
       كان تموز حصيلة مخاض مرير وطويل وقاس، ولدت معه الارض الرافدينية خصبها الازلي بالعطاء ، وأشرق فجر الانسان العراقي مع اول ساعات الفجر هاتفا من شماله الى اقصى جنوبه بهتاف واحد : لبيك يا عراق،  فكان النصر المؤزر،  فعمت ارجاء البلاد مظاهر الفخر والتألق والوحدة والثقة في المستقبل بعد ان طوى التاريخ العراقي واحدة من ابشع الصفحات التي كان عملاء الانجليز وخونة العراق يقدمون العراق محمية بريطانية ويسوقون نفطه وثرواته على طبق من ذهب ليعيث الاغراب وشركات النفط والاتباع  بكل خيرات العراق.
     لقد هُزم الطغاة والجبابرة في ذلك اليوم المجيد، وسقط العهد الملكي البائد تحت اقدام الحفاة والجائعين والمظلومين،  فأشرق بذلك فجر حرية جديد يتطلع الى عراق متحرر وديمقراطي وثائر على كل القيود، ورافض لكل المعاهدات الاستعمارية التي كبلت العراق طوال أكثر من ثمان وثلاثين سنة.
     خمس وخمسون سنة مرت ونستذكرها رغم شتاتنا وضياعنا، وقد كتب من كتب عن هذه الثورة الموؤودة ،  تاريخا وتوثيقا وتحليلا ونقدا متعدد الأغراض والمناحي، لكن المشترك في كل ذلك الذي يجب استخلاصه دائماً: هو ان شعب العراق قد خسر فرصته التاريخية لانجاز كامل اهدافه في التحرر والتنمية وتصليب الوحدة الوطنية والتكامل القومي مع اشقائه العرب ، خاصة مع الجمهورية العربية المتحدة، وهكذا ضاعت الثورة المغدورة، وضاع العراق معها في خضم الصراعات التي نشبت حول طريقة تسيير الفترة الانتقالية، وما برز من الاطماع الشخصية وميول الاستئثار بالسلطة، وعدم نضج قيادات الحركة الوطنية آنذاك التي تحولت من حالة الاتحاد الى الفرقة  والصراع الدموي متنازعة خلف طموحات العسكريين ومحيطهم.
      في ذكرى ثورة 14 تموز كأننا نعيش حالة الارتداد التاريخي لما كان يجب ان يتحقق؛ فالعراق شبه محتل، وتحكمه الاتفاقيات الأمنية والسرية مع دولة الاحتلال الامريكي، وهو في اضعف حالاته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وأمسى في موضع تهالكت عليه الاطماع الاقليمية من كل جانب وصوب.
    عاد القمع والاضطهاد والفقر والتشرد وامتلئت السجون بمئات الالوف من المعتقلين وشاع الفساد بكل حالاته ، ولم يعد الانسان العراقي ان يتذكر ويقارن ما بين طغيان نوري المالكي ونوري السعيد وعمق ارتباطاتهما بالأجنبي والمحتل.
    وفي ارتباط الذكريات يعود تموز الى شعب العراق كشهر مقترن بالحرية والانتفاضات الوطنية وبالدروس والعبر الكبرى في تاريخ العراق.
      سيبقى تموز الجماهير، وتموز الكادحين، وتموز الشعب، وتموز الثوار والمقاومين أيضا؛ خاصة اذا ما استعدنا قدرتنا على التأمل، ودراسة العبر من تموز التاريخ وتموز المنهل الدائم للثورة والعطاء في وادي الرافدين.
       لقد ادركت قوى شعبنا الوطنية والقومية الديمقراطية عبر مسار طويل من الكفاح الوطني، وتجارب الانتفاضات المرة والقاسية طوال فترة العهد الملكي وقبلها فترة الانتداب البريطاني، ان الاعداد لمرحلة الكفاح الوطني لإلحاق الهزيمة بالانجليز وعملائهم في الفترة الملكية، قبل ثورة 14 تموز تتطلب المراس في النضال السياسي والديمقراطي على مستوى كل فصيل لاعب في الساحة  العراقية، وعلى مستوى الوعي والحنكة السياسية بانجاز القوة السياسية والعسكرية الموحدة القادرة على انجاز التغيير والحاق الهزيمة بالانجليز وحلفائهم، خاصة بعد فشل حركة 1941 وعودة عبد الاله ونوري السعيد وأزلامهما وهم أكثر حقدا وشراسة ودموية ضد جماهير الشعب العراقي، فكانت الانتفاضة الباسلة ضد معاهدة بورتسموث 1948 واستمرار الانتفاضات ضد الحكم الملكي في 1956 . وكان درس انتصار ثورة 23 تموز1953  في مصر ماثلا أمام احرار العراق،  فكان لا بد من الاقرار انه ليس بمقدور اية قوة وطنية، مهما كان ثقلها على الساحة ان تنفرد بقيادة النضال الوطني، او ان تكون قادرة على اجتياز مرحلة التحرر الوطني بمفردها،  وهي منعزلة ومتجاهلة للقوى الوطنية الاخرى.
       ولعل تجربة انبثاق جبهة " الاتحاد الوطني" عام 1957 وما قامت به من تمهيد الطريق الى انفجار الثورة  بات ملموسا ومشجعا، حيث تحالفت هذه الجبهة مع الفئات الواعية من ضباط وجنود الجيش العراقي لتصنع واحدة من ابرز الثورات الشعبية في القرن العشرين.
      لم تكن ثورة 14 تموز انقلابا عسكريا، كما يريد البعض ان يصورها؛ بل كانت بمجموع حراكها الشعبي متدفقة باشتراك كل القوى الوطنية العراقية ووحدات من الجيش العراقي، ولم يتخلف عنها الا معسكر الخونة والضالعين في خدمة الاحتلال البريطاني للعراق ومنفذي سياساته تحت واجهة الحكم الملكي الذين لاذوا بالفرار وهم يسمعون بيانها الاول.
     الدرس الثاني من ثورة 14 تموز المجيدة ، وهو الأهم، ان ذلك الانتصار الكبير لم يستمر طويلا لتحقيق استكمال حرية العراق وانجاز التحرر من كافة المواثيق الاستعمارية، واسترجاع الثروة النفطية واراضي الامتياز من ايدي الشركات الاحتكارية الغربية، والشروع بخطط التنمية الوطنية، والتكامل مع بقية البلدان العربية في مواجهة التحديات الاستعمارية.
     لقد كان قصر النظر لدى القادة العسكريين للثورة يدفع الى حالتين متناقضتين، قطب يستأثر بالسلطة ويتجه بها  نحو الدكتاتورية الفردية، ويندفع نحو تحريض انصاره وأتباعه الى الاحتراب مع حلفاء الامس، وقطب آخر عمل بكل ما وسعه الى الارتداد عن التزاماته مع حليف الأمس، شعورا منه بالغبن والإقصاء والتهميش، فلجأ هو الاخر الى انصاره ومؤيديه لينتقل الشارع العراقي الى الفواجع والاحتراب والقتل والاغتيالات والمجازر والاعتقالات والى تنظيم الانقلابات العسكرية، وبذلك تم الاجهاز على ما تبقى من حلم ثورة 14 تموز ودفنها الى الابد.
      ما اشبه اليوم بالبارحة،  ان إعادة استيعاب الدرس عبر ممارسة النقد والنقد الذاتي لقوى شعبنا الوطنية يحتم عليها التنادي من جديد الى قيام التحالف الوطني الشامل لإسقاط العملاء الجدد المستظلين بأسيادهم الامريكيين والإيرانيين ولانهاء العملية السياسية المشبوهة ودستورها السقيم وفضح اتفاقياتها الامنية مع المحتل الامريكي، وإلغاء القواعد الامريكية والامتيازات العسكرية واللوجستية للأمريكيين في العراق.
    ان هذا المطلب الجماهيري يلح على كل الوطنيين انجازه  اليوم، وليس غدا؛ لان  العراق بات مهددا باستلاب سيادته على ارضه ومياهه وموانئه وأجوائه ووحدته الشعبية والترابية.
       يعاني شعبنا من شبح الاقتتال الطائفي، ومحاولات فرض البدائل الدينية والطائفية محل البدائل الديمقراطية، وفق تقنين جهنمي ونظام انتخابي مشبوه الغايات والمقاصد،  اكد انحيازه للكتل والكيانات التي جلبها الاحتلال واقامها ومكنها على سلطة العراق بعد غزو 2003 . فهناك مخاطر التقسيم ماثلة امام الجميع ، وحتى احتمال انفصال شمال العراق عن جنوبه بات قائما في اية لحظة؛ وتطمع الكياناتى الطائفية الى تكوين كياناتها واماراتها النفطية في الجنوب، وفي الوقت الذي تتقاسم به العصابات والمليشيات ثروات العراق من خلال المحاصصة والامتيازات الخاصة لها وبالارتباط بكبريات الشركات العالمية العابرة للحدود مقدمة لها الامتيازات النفطية والطاقوية وتسهيل برمجة وتنفيذ النهب الاستعماري لثروات العراق، ذات الموقف الذي واجهته قبل 55 سنة ثورة 14 تموز  الظافرة .
     نرى ان الحكومة الاحتلالية المالكية الخامسة تذكرنا بما كانت تفعله تماما حكومات نوري سعيد وصالح جبر وغيرها بخضوعها التام لإملاءات الاجنبي وبالارتباط العضوي بعصابات الجريمة السياسية والتحالفات الاقليمية، محاولة منها الى عزل العراق عن محيطه العربي والإقليمي ، وللاستئثار بعلاقة خاصة مع النظام الفارسي الطامع ابدا بخيرات العراق مجددا انتقامه وحقده التاريخي.
     هناك محاولات امتداد للسيطرة الايرانية على العراق، ويتم نهب ثروات العراق من قبل دول الجوار، ايران شرقا و الكويت جنوبا، كما اصبحت الاراضي العراقية مسرحا لاختراقات القوات العسكرية التركية وفصائل الانفصال الكردي القادمة من كل ارجاء كردستان ، وتتواجد القوات الايرانية من خلال فيلق القدس متدخلة بكل الاوضاع العراقية ومنها الى سوريا ولبنان وفلسطين، دون قدرة للعراق على ردهما لوهنه وارتهان قراره الوطني.
         حتى مشيخة الكويت تملي ارادتها على حكومة العراق بحجة تنفيذ الشروط المذلة للبند السابع والسادس فتستنزف اموال العراق وتنهبها باسم الشرعية الدولية، ويتم تغير  خارطة العراق بمقص الاطماع من كل جانب، وترسم  الكويت حدودها  في داخل الاراضي العراقية بحجة الدوافع الامنية، على حساب مواقع موانئ العراق ومياهه الاقليمية .
      ان المرارة والحرمان والشقاء الذي يعيشه شعبنا الصابر تدعو جميع الوطنيين العراقيين الاحرار الى بناء الجبهة الوطنية الشاملة، ودعم الانتفاضة العراقية، والحفاظ على وحدة فصائل العمل المقاوم وتأسيس نواة جيش الثورة العراقية الوطني.
        بعد كل هذه المراحل الشاقة من التضحيات الكبرى في طرد الاحتلال الامريكي لم يعد الوضع هينا بقبول أي شكل من التسويات او المهادنة او الركون الى الوعود المحلية والاقليمية والدولية ، طالما ان الوضع القائم في العراق وصل الى اقصى درجات الفساد والرذيلة السياسية والاخلاقية. ولا بد ان يزاح بثورة شعبية واسعة يشارك فيها العرب والأكراد والتركمان لإحلال البديل الديمقراطي الذي يتمتع به شعبنا الكردي بحكمه الذاتي ويكفل دستور العراق القادم المساواة والعدالة الاجتماعية والاحتكام الى الصندوق وضمان حقوق الاقليات الدينية والقومية جميعها بروح الالتزام بالمواطنة العراقية ووحدة الدولة العراقية ترابا وشعبا.
      ان البديل للوضع القائم سيبقى قرارا وطنيا، من خلال نضال ومشاركة أبناء شعبنا بعربه وكرده وأقلياته الاخرى،  وبإسهام قواه وأحزابه الوطنية. هذا هو البديل الذي يتوق اليه ابناء شعبنا، الذي سوف لا يعزل فيه اي طرف او قوة وطنية تدين للعراق وحريته واستقلاله الوطني المنشود.
     وفاء لتموز الثورة، وتموز ثمرة جبهة التحالف الوطني، وتموز الجبهة الوطنية والقومية التقدمية، مهما كانت الاختلافات حولها ونصوص مواثيقها،  تموز اليوم لا يمكن ان نتناوله كذكرى محنطة وطارئة مرت يوما في تاريخنا الوطني الثوري.  وطالما نحن نعيش اليوم في فترة من اصعب الفترات القاسية على شعبنا وأمتنا، كونها  مليئة بالأحداث الجسام، وربما يظن البعض ان عهد الدكتاتوريات يمكن ان يتجدد في غفلة من الزمن، وهناك من يحلم، وهو الواهم ، أن يتسلط على شعب العراق بعقلية الفرد الواحد أو الحزب الواحد .
      نقول للجميع ان التاريخ لن يتسامح مع احد خان شعبه لأجل الوصول الى سلطة قمع تحكم شعب العراق بقوة الحراب والحماية الاجنبية، كما ان الذين يقفون خارج أسوار التاريخ الوطني، و يضيعون بأوهامهم الانعزالية هم يعيشون في منعطفات ومتاهاة العصور المظلمة الوسطى فهم مخطئون أيضا إن لم يرعووا.
   وهنا ايضا يجب ان نذكر أؤلئك الصامدين والمقاومين على جبهات التحدي والمنازلة من اجل التحرير، اننا لا نغفر لهم خطيئة الانقسام والتشرذم والتعصب ، نفس الأمراض التي تعرضت لها  ثورة 14 تموز المغدورة.
    ولابد ان تجد قوى شعبنا الوطنية طريقها نحو الوحدة والتصالح والاقتراب والتفاهم لانهاء حالات التشرذم والفرقة. وبغير ذلك ، ومع ذلك،  فلابد من تموز آخر. تموز منتظر يدق الابواب علينا جميعا.
وان غدا لناظره قريب
 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق