هيفاء زنكنة
منذ عقود والامم المتحدة قلقة
على العراق.
هكذا تنص التقارير والتصريحات
تلو التصريحات الصادرة من مختلف منظمات الامم المتحدة، بدءا من اليونسكو واليونسيف
الى مجلس حقوق الانسان ويونامي (بعثة الامم المتحدة في العراق).
في فترة التسعينات، مثلا، قلقت الامم المتحدة لما اصاب الشعب العراقي جراء الحصار الجائر، متناسية بانها كانت من عملت على اصدار قرار وتطبيق الحصار تنفيذا للسياسة الامريكية – البريطانية. واصبح قلق الامم المتحدة مزمنا منذ غزو العراق عام 2003. وهل ننسى كيف أصبح مبنى الامم المتحدة الشاهد الحي على أكبر عملية تصنيع للكذب، حين جلس احد معماري الغزو، اي كولن باول، وزير خارجية أمريكا، ليظهر فيلما عن اسلحة الدمار الشامل العراقية المهددة للعالم كله؟
ثم جاء تأسيس بعثة الامم المتحدة في العراق (يونامي)، بعد الغزو، كمحاولة للسيطرة على اعراض القلق، الا ان بقاء العراق تحت الاحتلال العسكري المباشر حتى عام 2011 ومن ثم تنصيب حكومة بالنيابة، وعلى الرغم من تغيير وجوه مبعوثي الامم المتحدة، لم يساعد على انهاء القلق، بل وفي بعض الاحيان ازداد وتوسع، وبالتحديد في مجال انتهاكات حقوق الانسان. فاحكام الاعدام، استنادا الى شهادة المخبر السري، وتحت قضاء مسيس مبني على الفساد، بات وفق تصريح مفوضة حقوق الانسان ‘لا انساني’ و’بالجملة’. جاءت زيارة بان كي مون، الأمين العام للامم المتحدة، الى بغداد، في الشهر الماضي، لتجسد القلق واعلانه بصوت عال امام ساسة النظام وعلى رأسهم أمين حزب الدعوة نوري المالكي. الا ان بان كي لم يعثر على ما ينهي قلق المنظمة بالعراق وغادر البلد بدون الحصول، ولو على حبة فاليوم، لتريح اعصابه بعض الشيء.
واذا كان بان كي مون قد اختار التفرغ، هذه الايام، لمصدر’ قلق’ آخر في المنطقة، اي سوريا، الا ان يونامي، بحكم تخصصها بالشأن العراقي، مجبرة على معاناة القلق من مصدر واحد هو العراق فقط. وقلقها الأخير مصدره مدينة الفلوجة. المدينة التي اذاقت المحتل الانكلو امريكي الأمرين وأجبرته، مع بقية المدن المقاومة، على الجلاء العسكري المبكر. هذه المدينة المناضلة، بشهادة المحتل قبل غيره، تسبب القلق للامم المتحدة، منذ ستة اسابيع، لاسباب انسانية وسياسية. يشمل حل الوجه السياسي دعوتها ‘جميع الاطراف السياسية بالعراق الى معالجة أسباب العنف من خلال الحوار والعملية السياسية والمساعدة في إعادة بناء الانبار’. وقد رفض رئيس الحكومة الطائفية المضمخة بالفساد هذه الدعوة مرارا وتكرارا تحت شعار ‘لا حوار مع الارهاب’، متهما بذلك جميع سكان أكبر محافظة بالارهاب، ليسوغ واحدا من اكثر السياسات الحكومية فاشية أي العقاب الجماعي. ودعوة الامم المتحدة نظام المالكي للحوار يستند الى شيوع سياسة الحوار مع اشد الاعداء. ها هو عدو المالكي قديما وصديقه حديثا بشار الأسد يتفاوض مع من يعتبرهم إرهابيين، وأمريكا تتفاوض مع الطالبان هي وحلفاؤها المتقاتلون فيما بينهم في الباكستان واأفغانستان.كما تتفاوض امريكا مع ايران. وكان البريطانيون قد جلسوا مع الجيش ‘الارهابي’ السري الإيرلندي، وهذا غيض من فيض، فلماذا لم يتفاوض المالكي مع ابناء الشعب في الأنبار، لماذا رفض الاصغاء لمطالب المتظاهرين السلميين لأكثر من عام ؟
اما الوجه الانساني لقلق الأمم المتحدة الحالي فسببه، حسب رئيس البعثة نيكولاي ميلادينوف، تدهور الاوضاع في مدينة الفلوجة. اذ قصف ‘الجيش العراقي الباسل’ مستشفى الفلوجة العام وتسبب بقتل عدد من العاملين فيه واجلاء المرضى واغلاق معظم اقسامه. كما ادى القصف العشوائي الى قتل وجرح المئات وبلغ عدد النازحين من محافظة الانبار 300 ألف شخص خلال الستة اسابيع الاخيرة فقط.
وتواصل الامم المتحدة مناشداتها لتأمين وصول المساعدات الإنسانية إلى المدينة، فحالة النازحين ‘غير مستقرة مع نفاد مخزون الغذاء والمياه الصالحة للشرب وسوء الصرف الصحي ومحدودية فرص الحصول على الرعاية الصحية’.
والمعروف ان قوات النظام قامت بتفجير عدد من الجسور لمنع وصول الامدادات الى الاهالي، وتحاصر مداخل المدينة بآلاف القوات حيث لا يسمح للرجال بالدخول او الخروج منها. وهي ذات السياسة الهمجية التي اتبعها المحتل ويقوم نظام حزب الدعوة باستنساخها تحت مرأى العالم بينما تكتفي منظمة الامم المتحدة بارضاء ضمير اعضائها باصدار تصريح او تقرير تبدي فيه قلقها.
لقد عاش العراق، كما فلسطين والعديد من دول عالمنا، على مدى عقود، في ظل ازدواجية معايير الامم المتحدة حول حقوق الانسان والمساواة وعدم التمييز وكل الطموحات النبيلة المشابهة الأخرى، حتى لم يعد هناك من يؤمن بها لكثرة ابتذالها تضليلا وخداعا. سألني صديق، حين طلبت منه اخيرا المشاركة في مؤتمر حول حقوق الانسان بالعراق، قائلا بصوت يائس: هل من فائدة؟ ألن يكون هذا مؤتمرا آخر للثرثرة؟ وحين اجبته حول ضرورة توثيق الجرائم ضد الشعوب، تساءل عما فعله العالم ازاء صور وتقارير تعذيب المعتقلين بسوريا وهي بالآلاف. وعلى الرغم من جوابي بان هذه الجرائم لا تسقط بالتقادم، الا انني، في قرارة نفسي، وفي لحظات التعب والاحباط، اتفق معه بان الواقع قد يكون محبطا وهذه هو، اساسا، ما يدفع الناس الى تبني اسلوب العنف والتمادي فيه الى اقصى حد.
ان عالمية حقوق الإنسان تبقى بلا معنى اذا لم تكن هناك مساءلة. ويتجلى هذا في الانتهاكات الواسعة لحقوق الإنسان المسكوت عنها في العديد من البلدان، من بينها العراق. حيث تتحول الحياة اليومية لمعظم السكان الى كفاح من أجل البقاء على قيد الحياة فقط بينما تتمتع السلطات القمعية بحرية ممارسة الارهاب والتعذيب على نطاق واسع.
ان النظام العراقي لايبدو ‘قلقا’ من قلق الامم المتحدة. فهو نظام لا يضع في حسابه التخطيط بعيد المدى لوطن يتسع لكل ابنائه. انه نظام عنصري يراهن على البقاء استنادا الى الابادة متهما الآخرين بانهم ‘الارهابيون’ العاملون على إرهاب شعبهم وتدمير آمال بناء الديمقراطية.
والمفارقة المضحكة هذه الايام ان نرى بعض التشكيلات السياسية العراقية وقد سرت اليها حالة قلق الامم المتحدة. هناك، مثلا، تيار جديد خرج معظم مؤسسيه من رحم الحزب الشيوعي ليطلقوا على انفسهم اسم ‘التيار الديمقراطي’ وهو يدعم قائمة انتخابية تدعى ‘ المدنيون الديمقراطيون’.
اصدرت هذه القائمة بيانا عن هجوم نظام المالكي على محافظة الانبار والاقتتال الدائر في محافظات اخرى بعنوان ‘تطورات الانبار مقلقة’ عبر فيه ‘التحالف المدني الديمقراطي عن قلقه من تطورات الأزمة في الانبار’. ان مايجب التأكيد عليه هو ليس الدعوة الى العنف او الاقتتال ولكن اذا ما كانت الامم المتحدة (ولنقل بقية التيارات العراقية ذات المسمى الديمقراطي، وقد اصبحت اكثر من الهم على القلب) جادة فعلا في قلقها على العراق وغيره من الشعوب المنتهكة حقوقها فان عليها ان تبدي ماهو اكثر من القلق لتكتسب المصداقية في عملها، للسعي في الحفاظ على كرامة الانسان بغض النظر عن جنسه او دينه او قوميته.
ملاحظة:
نشر المقال هنا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق